كثيرون هم أولئك الذين تناولوا شخصية الكاتب المغربي محمد شكري من زوايا ما تقدمه سيرته الذاتية، الصادرة لحد الآن في ثلاثة أجزاء، من وقائع استثنائية لها علاقة بالمحكي الحياتي العام لمحمد شكري الإنسان والكاتب، في تمفصلاته الزمنية، وفي تحولاته البيولوجية والاجتماعية والثقافية والاعتبارية والذهنية.
غير أن سيرة محمد شكري الذاتية هي أوسع وأمتع بكثير مما تقدمه فقط سيرته الذاتية المكتوبة، من وقائع وتجارب متعددة وذات خصوصية ونكهة حكائية وجمالية لافتة ومغايرة لما عهدناه من محكيات في سير ذاتية عربية أخرى. وهي السيرة الذاتية التي حققت، كما هو معروف، نجاحا كبيرا ومتعددا، فتركت صدى خاصا على مستوى التلقي المحلي والعربي والعالمي، وأيضا على مستوى ما تثيره هذه السيرة الذاتية من أسئلة واحتفاء عربي وأجنبي بها، وكذا من زاوية ما عرفته من انتشار واسع، ساهمت ترجمتها المتزايدة إلى العديد من اللغات العالمية، وكذا الإعلام الموازي لحياة شكري وردود الفعل المختلفة الموازية لسيرته الذاتية، بما فيه إجراء المنع الذي طالها، كل ذلك ساهم بقسط وافر في بلورة ذلك الانتشار وتزايده.
غير أن سيرة محمد شكري العامة لا يمكن تتبع كل خيوطها المتناسلة والمتشابكة من خلال ما تكشف عنه كتاباته السير ذاتية فقط من معطيات بيوغرافية مرجعية، مرتبطة برحلة محمد شكري في الأزمنة وفي الأمكنة وفي الوجوه وفي الوجود، بل إن ثمة صورا أخرى تكشف عن مجموعة من الاهتمامات والانشغالات الموازية لرحلة الكتابة السيرذاتية لدى شكري، والتي لا تقل أهمية عن تلك الصورة الشهيرة المعروفة عن شكري اليوم، باعتباره كاتبا عالميا ذا تجربة أدبية ـ سيرذاتية فريدة في الأدب العربي المعاصر، ويتعلق الأمر، هنا، بالخصوص بصورة «محمد شكري القارئ»، بالمفهوم الواسع، هنا، للفظ القراءة. وهي صورة، أيضا، لا تقل أهمية ودلالة وتأثيرا وإشراقا عن صورة محمد شكري الكاتب التي ألفناها أكثر من غيرها، وإن بدا أن كل صورة، من هاتين الصورتين، تكمل الأخرى وتتداخل معها، كما تكشف عن ذلك كتابات شكري الأدبية، وحواراته الصحفية وأحاديثه السيرذاتية، ورسائله المنشورة، وكذا كتاباته ومذكراته الموازية لتجربته الكتابية السيرذاتية.. ولا غرابة في ذلك، مادام أن كثرة القراءة قد سبقت عند شكري فتنة الكتابة، وهو ما يجعل منه، في الآن ذاته، كاتبا كبيرا وقارئا كبيرا أيضا.
ومن يقرأ رسائله المتبادلة مع محمد برادة، سوف يدرك أن عملية القراءة عند شكري تشكل جزءا لا يتجزأ من حياته اليومية، ومن الأخبار الواجب نقلها للأصدقاء، فتجده دائما يحيل على مقروءاته من الكتب والمجلات، إلى الحد الذي يجد في القراءة مجالا للتطهر والادمان: «إنني أطهر نفسي. الكتب تنام معي. عادة اكتسبتها منذ سنين. القراءة والكتابة في الفراش. مذكرات اللص لجان جينيه أعيد قراءتها بالفرنسية والإسبانية. كذلك اقرأ Nadji لـBRETON تاريخ العلم لجورج ساتورن، شعراء المدرسة الحديثة لروزنتال، ومجلة عالم الفكر (العدد الخاص بالزمن)، و«قصائد حب على بوابات العالم السبع» للبياتي. غارق في القراءة، لكن الإحساس بالكتابة لم يغرني بعد..» (من رسالة إلى محمد برادة، في: «ورد ورماد»، رسائل، ص 27).
كما أن من يتتبع بعض الصفحات المشرقة من الجزء الثاني «زمن الأخطاء» من سيرته الذاتية، سوف يلمس عن كثب أن محمد شكري كان، منذ بدايات اكتشافه لعوالم الأدب والثقافة، يقبل بلهفة وولع على القراءة، مستمتعا بلذتها، قبل أن يقبل، فيما بعد، على فتنة الكتابة وإغرائها، إن لم نقل بأن القراءة كانت بالنسبة له محفزا أساسيا على ممارسة الكتابة فيما بعد: «بدأ يسكنني شيطان الأدب فصرت أهتم بقراءة الكتب الأدبية أكثر من اهتمامي بدروس علم النفس التربوي، والتشريع المدرسي» (ص129)، وهو الذي كان يفضل، كذلك، فعل القراءة على الإنصات للدرس: «ضبطني أستاذ التربية وعلم النفس أقرأ: «البؤساء» فأخرجني صارخا: «هذه قاعة الدرس وليست مكتبة»، أو في قوله كذلك: «أوزع وقتي بين القراءة بالعربية والإسبانية والعربدة في الحانات» (ص130).
كما أن من يقرأ بعض الفقرات الصادقة والوفية عن شخصية الكاتب المغربي محمد الصباغ، تلك التي يتحدث فيها شكري عن بداية علاقته واكتشافه للصباغ، ومن خلاله يكتشف لأول مرة ما معنى أن يكون الإنسان كاتبا، سوف يفطن إلى أن شكري كان منذ البداية قارئا مكثارا قبل أن يقبل على الكتابة، وتعميق قراءاته أيضا، بإيعاز من الكاتب محمد الصباغ نفسه، هذا الذي يقول موجها نصيحته الخالدة لمحمد شكري، بعد أن قرأ هذا الأخير كتبه وكَتب محاولة عرضها لإبداء الرأي على الصباغ : «لغتك لابأس بها. استمر في الكتابة بانضباط واقرأ كثيرا». ويضيف شكري: «صار يوجهني في قراءاتي الشعرية بالعربية والإسبانية" (ص131 ). ثم يسرد شكري سلسلة من الكتب التي قرأها بتوجيه من الصباغ، ففتحت أمامه مجالا أوسع لاكتشاف أسماء كتاب عالميين، وللتلذذ بعذوبة الشعر الرومانسي لدى العديد من الشاعرات الأجنبيات. كما انفتح مجال القراءة لديه لأول مرة على الأدب المغربي، من خلال قراءته لـ«قصص من المغرب» لأحمد عبد السلام البقالي.
أما عن شغف شكري وهوسه الكبير واللامتناهي بالقراءة، وكذا الإغراء الذي كانت تمارسه عليه، فيمكن التمثيل عليه عبر هذا الشاهد النصي من «زمن الأخطاء»، في قوله: «أقرأ أي شيء مكتوب: كتابا معارا أو مسروقا، أو ورقة مكتوبة من على الأرض، أغلبها بالإسبانية. عناوين المتجر والمقاهي يستحوذ علي قراءتها ونقلها، أحيانا على ورقة أو دفتر المسودات(...) صارت القراءة والكتابة عندي هوسا في الحلم واليقظة..» (ص49ـ 50).
ومن يتتبع كذلك أحاديث شكري الصحفية سوف يكتشف، بشكل لافت، مدى الحضور المتميز عنده للحديث عن تجربة القراءة في حياته، ودورها وتأثيرها العام في أدبه ومخيلته وفي ثقافته ككل، انطلاقا من مجهوداته الفردية تحديدا، حيث لم يكن موجها في البداية من لدن قراء جادين، كما عبر هو نفسه عن ذلك، وهو الذي يقول:« مع مرور التجربة القرائية، بدأت أميز بين الجيد والغث في اختيار ما أقرأ، سواء بذكائي الخاص أو بمساعدة بعض أذكياء القراءة..» (من حديث معه أجراه يحيى بن الوليد والزبير بن بوشتى، في جريدة القدس، العدد 3952، 30 يناير 2000، ص13).
تلك، إذن، مجرد شذرات عن تجربة القراءة في حياة محمد شكري، سقناها، هنا، للتدليل أساسا على الأهمية التي كانت تحظى بها القراءة، في البداية، في حياة محمد شكري، وأيضا في بدايات تفتح وعيه على عوالم الأدب والكتب والمحاولات والأسماء والنصوص العالمية، بهذه اللغة أو تلك، وذلك قبل أن يأخذ هذا الهوس بعالم القراءة منحى آخر، في حياة شكري وفي تجربته الأدبية والفكرية، على نحو أكثر عمقا وانفتاحا.
وفي هذا الصدد، يمكن أن نتتبع جوانب من سيرة محمد شكري، ذلك القارئ الكبير الذي صاره إلى حد الإدمان، وكذا محطات من تجربته الغنية مع القراءة والتأمل والتعليق على المقروء، من خلال مجموعة من المداخل الأساسية التي تكشف جميعها عن تجليات صورة ذلك القارئ الذكي الذي يسكن عمق شخصية الكاتب، ليس فقط عبر ما تتميز به شخصية محمد شكري من ثقافة واسعة، وما تبرزه حوارته وأحاديثه العديدة، إلى جانب ما تضمره لغة الكلام لديه، من قدرة على الاستيعاب والاستثمار الجيد للإحالات المرجعية على نصوص غائبة وعلى كتابات عالمية، من الشرق والغرب، في حقول مختلفة، ولكن أيضا عبر ما تكشف عنه كتاباته الأخرى الموازية لقصصه ومسرحيته، ولسيرته الذاتية ولمذكراته مع كتاب عالميين آخرين من نضج ثقافي ومعرفي كبير، ومن ذكاء خاص في اختيار المقروء وقراءة المكتوب أيضا.
ويكفي، هنا، أن نستدل على ذلك بكتاب فريد من نوعه لمحمد شكري، بعنوان «غواية الشحرور الأبيض»، الصادر عام 1998 . كتاب أعتبره شخصيا من بين أهم الكتب التي ألفها محمد شكري، وإن لم ينل بعد كل ما يستحق من متابعة ورصد، على الأقل من زاوية طرافة موضوعه وتنوعه وانفراد محمد شكري فيه ـ بخلاف كتاب مغاربة آخرين ـ بالكتابة عن سيرة القراءة لديه، وأيضا من زاوية ما يكشف عنه هذا الكتاب من ثراء لافت في مادته ومعانيه، وفي أفكاره ومرجعياته أيضا، إلى جانب ما يضمره، كذلك، من إمكانات تركيبية هائلة، تميز شخصية محمد شكري في التأمل والمقاربة والتذوق والقراءة للأعمال الأدبية والفكرية، العربية والأجنبية، القديمة والحديثة، وما يكشف عنه، كذلك، من حس نقدي وروح مرحة، ومن سخرية ودعابة وحِكم أيضا، الأمر الذي يساهم، هنا، على الأقل من خلال هذه الصورة التي يرسمها هذا الكتاب لشكري القارئ، في زعزعة جوانب من طبيعة ذلك الارتباط الأزلي ـ الكتابي بين محمد شكري والجزء الأول خصوصا من سيرته الذاتية «الخبز الحافي»، بما هو ارتباط ما فتئ شكري نفسه يحاول فكه، وبالتالي التخلص مما جناه عليه «الخبز الحافي»، وبالتالي قتل تلك الشهرة الواسعة التي ولدها له هذا النص، دون غيره من النصوص الأخرى الممتعة التي كتبها محمد شكري، من قبل «الخبز الحافي» ومن بعده، بما فيها الجزآن التاليان من سيرته الذاتية («زمن الأخطاء» و«سوجوه»، وكذا كتابه الشيق والعميق «غواية الشحرور الأبيض»، هذا الكتاب الذي «سيقدم لأولئك الذين لا يريدون أن يقرأوا مرة أخرى عن طفولة بائسة ما بين تطوان والعرائش وجها آخر من وجوه هذا الكاتب المتنوع والبالغ الخصوبة" (محيي الدين اللاذقاني، في تقديمه للكتاب، ص7). ففي هذا الكتاب، نتتبع محمد شكري قارئا ذكيا، ومتتبعا كبيرا للإنتاج الأدبي العربي والعالمي، بمجهوداته الفكرية الفردية، وهو الذي لم يتابع الدراسة قط بالجامعة، بل انه قد «حفر مساره الخاص من الأمية إلى العالمية»، كما عبر عن ذلك اللاذقاني، فاخترع شكري، بذلك، لنفسه شرطه الأدبي والتأملي والنقدي، بموازاة مع افتتانه الكبير، وعلى حد سواء، بغواية القراءة إلى جانب غواية الكتابة.
كما نتتبع في هذا الكتاب آراء محمد شكري في العديد من القضايا ذات الارتباط بعوالم القراءة والكتابة والنقد والتذوق.. فعبر هذه العوالم جميعها، يخوض محمد شكري تجربة القراءة العاشقة والعالمة للعديد من النصوص والظواهر، كما ينظّر لتجربته هو مع الكتابة، ولتجارب كتاب آخرين كذلك، مميزا في الوقت نفسه بين أنواع الإبداع والنقد ووظيفة كل منهما. كما يسافر شكري في بعض الأزمنة الإبداعية العربية، عبر قراءات مركزة في بعض التجارب الأدبية لكتاب عرب، من بينهم على الخصوص نجيب محفوظ والطاهر بنجلون وعبد الرحمن مجيد الربيعي، كاشفا، في الآن ذاته، عن صورة ذلك «الناقد» الذي كانه، معلنا، في الوقت نفسه، عن بعض مواقفه الفلسفية من بعض الظواهر والعلائق الكونية، من منطلق امتلاكه لقدرة فاتنة على إدراك ما يدور في العالم من حوله، كتناوله لطبيعة العلاقة القائمة بين الإنسان والعالم، والعلاقة بين القبيح والجميل، وإبرازه لموقفه كذلك من مقولة انتهاء دور الأدب.
وإلى جانب السرد، يحضر الشعر في كتابات محمد شكري، كما في تجربته القرائية أيضا. ولا غرابة في ذلك، فقد كان الشعر من بين أولى الأجناس التعبيرية التي أقبل شكري على قراءتها والافتتان بسحرها وتأثيرها.
ويكفي، هنا، الرجوع إلى كتاب شكري الغواية لاكتشاف جوانب فقط من ذلك الوجه الآخر المشرق في شخصية هذا الكاتب المغربي، كما كان يلقب قبل أن تكسر العالمية جدار المحلية، وهو وجه يبدو، من خلاله شكري، أنه قد انتقم لتلك السنوات والأشهر والأسابيع والأيام والساعات والدقائق التي قد يحسب البعض أن شكري كان قد ضيعها سدى، قبل أن يتعلم القراءة والكتابة، أو حتى بعد التعلم، لكن هيهات، فالشحرور كان يطوي المسافات ويلتهم الكتب بذكاء ذلك الشاطر الذي كأنه وما يزال.
عبد الرحيم العلام
0 التعليقات :
إرسال تعليق